فصل: (المزمل: آية 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[المزمل: الآيات 15- 16]

{إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ رسُولا شاهِدا عليْكُمْ كما أرْسلْنا إِلى فِرْعوْن رسُولا (15) فعصى فِرْعوْنُ الرّسُول فأخذْناهُ أخْذا وبِيلا (16)}.
الخطاب لأهل مكة {شاهِدا عليْكُمْ} يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم.
فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟
قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور بعينه {وبِيلا} ثقيلا غليظا، من قولهم: كلأ وبيل وخم لا يستمرأ لثقله. والوبيل: العصا الضخمة. ومنه الوابل للمطر العظيم.

.[المزمل: الآيات 17- 18]

{فكيْف تتّقُون إِنْ كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا (17) السّماءُ مُنْفطِرٌ بِهِ كان وعْدُهُ مفْعُولا (18)}.
{يوْما} مفعول به، أى: فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له، إن بقيتم على الكفر. ولم تؤمنوا وتعملوا صالحا. ويجوز أن يكون ظرفا، أى: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا. ويجوز أن ينتصب بـ: {كفرتم} على تأويل جحدتم، أى فكيف تتقون اللّه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء: لأن تقوى اللّه خوف عقابه {يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا} مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال. والأصل فيه: أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان. أسرع فيه الشيب. قال أبو الطيب:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ** ويشيب ناصية الصّبىّ ويهرم

وقد مرّ بى في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول. وأنّ الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب {السّماءُ مُنْفطِرٌ بِهِ} وصف لليوم بالشدّة أيضا. وأنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق. وقرئ: {منفطر} و{متفطر}. والمعنى: ذات انفطار. أو على تأويل السماء بالسقف. أو على تأويل السماء شيء منفطر، والباء في {بِهِ} مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعنى: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهو له كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ويجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالا يؤدّى إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله: {ثقُلتْ فِي السّماواتِ والْأرْضِ}. {وعْدُهُ} من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير لليوم. ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل وهو اللّه عز وعلا، ولم يجر له ذكر لسكونه معلوما.

.[المزمل: آية 19]

{إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمنْ شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا (19)}.
{إِنّ هذِهِ} الآيات الناطقة بالوعيد الشديد {تذْكِرةٌ} موعظة {فمنْ شاء} اتعظ بها. و{اتخذ} سبيلا إلى اللّه بالتقوى والخشية. ومعنى اتخاذ السبيل إليه: التقرّب والتوسل بالطاعة.

.[المزمل: آية 20]

{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِن الّذِين معك واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ فاقْرؤُا ما تيسّر مِنْهُ وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا وما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا واسْتغْفِرُوا اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ (20)}.
{أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ} أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت: قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ: {ونصفه وثلثه} بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث: وهو مطابق لما مرّ في أوّل السورة: من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه- وهو الثلث- وبين قيام الزائد عليه- وهو الأدنى من الثلثين. وقرئ: {ونصفه وثلثه}: بالجرّ، أى: تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف: وهو أدنى من الثلثين.
والثلث: وهو أدنى من النصف. والربع: وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير {وطائِفةٌ مِن الّذِين معك} ويقوم ذلك جماعة من أصحابك {واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار} ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا اللّه وحده، وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنيا عليه يقدّر: هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير، والمعنى: أنكم لا تقدرون عليه، والضمير في {لنْ تُحْصُوهُ} لمصدر يقدّر، أى علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط: وذلك شاق عليكم بالغ منكم {فتاب عليْكُمْ} عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر، كقوله: {فتاب عليْكُمْ وعفا عنْكُمْ فالْآن باشِرُوهُنّ} والمعنى: أنه رفع التبعة في تركه عنكم، كما يرفع التبعة عن التائب. وعبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود. يريد: فصلوا ما تيسر عليكم، ولم يتعذر من صلاة الليل، وهذا ناسخ للأوّل، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس. وقيل هي قراءة القرآن بعينها، قيل: يقرأ مائة آية. ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين. وقيل: خمسين آية.
وقد بين الحكمة في النسخ. وهي تعذر القيام على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل اللّه. وقيل: سوّى اللّه بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال.
وعن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه: أيما رجل جلب شيأ إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه: كان عند اللّه من الشهداء.
وعن عبد اللّه بن عمر: ما خلق اللّه موتة أموتها بعد القتل في سبيل اللّه أحب إلىّ من أن أموت بين شعبتى رحل: أضرب في الأرض أبتغى من فضل اللّه.
و{علِم} استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ {وأقِيمُوا الصّلاة} يعنى المفروضة والزكاة الواجبة وقيل: زكاة الفطر، لأنه لم يكن بمكة زكاة. وإنما وجبت بعد ذلك، ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا {وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا} يجوز أن يريد: سائر الصدقات وأن يريد: أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه اللّه، والصرف إلى المستحق، وأن يريد: كل شيء يفعل من الخيز مما يتعلق بالنفس والمال {خيْرا} ثانى مفعولي وجد. وهو فصل. وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأنّ أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. وقرأ أبو السمال: {هو خير وأعظم أجرا}، بالرفع على الابتداء والخبر.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المزمّل دفع اللّه عنه العسر في الدنيا والآخرة». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يا أيها المزمِّلُ}
قال الأخفش: أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي، وكذا المدثر.
وفي أصل المزمل: قولان:
أحدهما: المحتمل، يقال زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة التي تحمل القماش.
الثاني: المزمل هو المتلفف، قال امرؤ القيس:
كأن ثبيرا في عرائين وبْله ** كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزمّلِ

وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: يا أيها المزمل بالنبوة، قاله عكرمة.
الثاني: بالقرآن، قاله ابن عباس.
الثالث: بثيابه، قاله قتادة.
قال إبراهيم: نزلت عليه وهو في قطيفة.
{قُمِ الليل إلا قليلا} يعني صلِّ الليل إلا قليلا، وفيه وجهان:
أحدهما: إلا قليلا من أعداد الليالي لا تقمها.
الثاني: إلا قليلا من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضا عليه.
وفي فرضه على منْ سواه من أُمّته قولان:
أحدهما: فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه، ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير.
الثاني: أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم، قاله ابن عباس وعائشة.
وقال ابن عباس: كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة، واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين:
أحدهما: بالصلوات الخمس وهو قول عائشة.
الثاني: بآخر السورة، قاله ابن عباس.
واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين:
أحدهما: سنة، قال ابن عباس: كان بين أول المزمل وآخرها سنة.
الثاني: ستة عشر شهرا، قالته عائشة، فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه، وفي نسخه عنه قولان:
أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين.
الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة، قاله سعيد بن جبير.
قوله: {قم الليل إلاّ قليلا} لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد، والقليل من الشيء ما دون النصف.
حكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس.
وقال الكلبي ومقاتل: القليل الثلث.
وحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني.
ثم قال تعالى: {نِصْفهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلا} فكان ذلك تخفيفا إذا لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال: «أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن اللّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه».
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {علِم أنْ لن تُحْصوه فتاب عليكم فاقْرؤوا ما تيسّر من القرآن}.
{أوزِدْ عليه ورتِّل القرآن ترْتيلا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بيّن القرآن تبيانا، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم.
الثاني: فسّرْه تفسيرا، قاله ابن جبير.
الثالث: أن تقرأه على نظمه وتواليه، لا تغير لفظا ولا تقدم مؤخرا مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها، قاله ابن بحر.
{إنّا سنُلْقي عليك قولا ثقيلا} وهو القرآن، وفي كونه ثقيلا أربعة تأويلات:
أحدها: أنه إذا أوحي إليّه كان ثقيلا عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير.
الثاني: العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه، قاله الحسن وقتادة.
الثالث: أنه في المزان يوم القيامة ثقيل، قاله ابن زبير.
الرابع: ثقل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ، قاله السدي.
ويحتمل تأويل خامسا: أن يكون ثقيل بمعنى ثابت، لثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبدا.
{إنّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطْئا} فيها ستة تأويلات:
أحدها: أنه قيام الليل، بالحبشية، قاله ابن مسعود.
الثاني: أنه ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك.
الثالث: ما بعد العشاء الآخرة، قاله الحسن ومجاهد.
الرابع: أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، قاله ابن قتيبة.
الخامس: أنه بدء الليل، قاله عطاء وعكرمة.
السادس: أن الليل كل ناشئة، قال ابن عباس: لأنه ينشأ بعد النهار.
وفي {أشد وطْئا} خمسة تأويلات:
أحدها: مواطأة قلبك وسمعك وبصرك، قاله مجاهد.
الثاني: مواطأة قولك لعملك، وهو مأثور.
الثالث: مواطأة عملك لفراغك، وهو محتمل.
الرابع: أشد نشاطا، قاله الكلبي، لأنه زمان راحتك.
الخامس: قاله عبادة: أشد وأثبت وأحفظ للقراءة.
وفي قوله: {وأقْومُ قِيلا} ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل، قاله الحسن.
الثاني: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم، قاله مجاهد وقتادة، وقرأ أنس بن مالك {وأهيأ قيلا} وقال أهيأ وأقوم سواء.
الثالث: أنه أعجل إجابة للدعاء، حكاه ابن شجرة.
{إن لك في النهارِ سبْحا طويلا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني فراغا طويا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، قاله ابن عباس وعطاء.
الثاني: دعاء كثيرا، قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب، ومنه سبح السابح في الماء.
{واذكر اسم ربك} فيه وجهان:
أحدهما: اقصد بعملك وجه ربك.
الثاني: أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، قاله ابن بحر. ويحتمل وجها ثالثا: واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته.
{وتبتّلْ إليه تبْتِيلا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أخلص إليه إخلاصا، قاله مجاهد.
الثاني: تعبد له تعبدا، قاله ابن زيد.
الثالث: انقطع إليه انقطاعا، قاله أبو جعفر الطبري، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات.
الرابع: وتضرّع إليه تضرّعا.
{ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ} فيه قولان:
أحدهما: رب العالمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب، قاله ابن بحر.
الثاني: يعني مشرق الشمس ومغربها.
وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه استواء الليل والنهار، قاله وهب بن منبه.
الثاني: أنه دجنة الليل ووجه النهار، قاله عكرمة.
الثالث: أنه أول النهار وآخره، لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق، ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب.
{فاتّخِذْهُ وكيلا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مُعينا.
الثاني: كفيلا.
الثالث: حافظا.
{واهْجُرهم هجْرا جميلا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: اصفح عنهم وقل سلام، قاله ابن جريج.
الثاني: أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم.
الثالث: أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة.
وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف.
{وذرْني والمُكذِّبين أُولي النّعْمةِ} قال يحيى بن سلام:
بلغني أنهم بنو المغيرة، وقال سعيد بن جبير: أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلا من قريش.
ويحتمل قوله تعالى: {أولي النّعْمةِ} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قال تعريفا لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة.
الثاني: أنه قال ذلك تعليلا، أي الذين أطغى هم أولوا النعمة.
الثالث: أنه قال توبيخا أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة.
{ومهِّلْهم قليلا} قال ابن جريج: إلى السيف.
{إنّ لدينا أنْكالا وجحيما} في {أنكالا} ثلاثة أوجه:
أحدها: أغلالا، قاله الكلبي.
الثاني: أنها القيود، قاله الأخفش وقطرب، قالت الخنساء:
دعاك فقطّعْت أنكاله ** وقد كُنّ قبْلك لا تقطع

الثالث: أنها أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يحب النكل على النكل، قيل: وما النكل؟ قال: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي واشتد.
{وطعاما ذا غُصّةٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها شجرة الزقوم، قاله مجاهد.
{وكانت الجبالُ كثيبا مهيلا} فيه وجهان:
أحدهما: رملا سائلا، قاله ابن عباس.
الثاني: أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه، قاله الضحاك والكلبي.
{فأخذْناه أخْذا وبيلا} فيه أربعة تأويلات:
أحدهما: شديدا، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: متتابعا، قاله ابن زيد.
الثالث: ثقيلا غليظا، ومنه قيل للمطر العظيم وابل، قاله الزجاج.
الرابع: مهلكا، ومنه قول الشاعر:
أكْلتِ بنيكِ أكْل الضّبِّ حتى ** وجْدتِ مرارة الكلإ الوبيل

{فكيف تتّقون} يعني يوم القيامة.
{إن كفرتم يوما يجْعل الولدان شيبا} الشيب: جمع أشيب، والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه، وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه، قال الشاعر:
طرْبت وما بك ما يُطرِب ** وهل يلعب الرجلُ الأشْيبُ

وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله.
{السماءُ مُنفطرٌ به} فيه أربعة أوجه:
أحدها: ممتلئة به، قاله ابن عباس.
الثاني: مثقلة، قاله مجاهد.
الثالث: مخزونة به، قاله الحسن.
الرابع: منشقة من عظمته وشدته، قاله ابن زيد.
{وكان وعْدُه مفْعولا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وعده بأن السماء منفطر به، وكون الجبال كثيبا مهيلا، وأن يجعل الولدان شيبا، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: وعده بأن يظهر دينه على الدين كله، قاله مقاتل.
الثالث: وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه.
وفي المعنى المكنى عنه في قوله: {به} وجهان:
أحدهما: أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيبا، فيكون اليوم قد جعل الولدان شيبا، وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء.
الثاني: معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيبا، ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها.
{...واللّهُ يُقدِّرُ الليل والنهار} يعني يقدر ساعتهما، فاحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: تقديرهما لأعمال عباده.
الثاني: لقضائه في خلْقه.
{علِم أن لن تُحْصُوهُ} فيه وجهان:
أحدهما: لن تطيقوا قيام الليل، قاله الحسن.
الثاني: يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه، قاله الضحاك.
{فتاب عليكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى، فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر.
الثاني: فخفف عنكم.
{فاقْرءُوا ما تيسّر مِن القرآن} فيه وجهان:
أحدهما: فصلّوا ما تيسّر من الصلاة، فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن.
فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان:
أحدهما: ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر.
الثاني: أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها، ويكون قوله: {ما تيسر} محمولا على صفة الأداء في القوة والضعف، والصحة والمرض، ولا يكون محمولا على العدد المقدر شرعا.
الثاني: أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملا للخطاب على ظاهر اللفظ.
فعلى هذا فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجبا لوجوب القراءة في الصلاة.
واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة، فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب، لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها، وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت.
والوجه الثاني: أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة، فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين:
أحدهما: أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه، ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه، لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة.
الثاني: أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب، وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل:
أحدها: جميع القرآن، لأن اللّه تعالى قد يسره على عباده، قاله الضحاك.
الثاني: ثلث القرآن، حكاه جويبر.
الثالث: مائتا آية، قاله السدي.
الرابع: مائة آية، قاله ابن عباس.
الخامس: ثلاث آيات كأقصر سورة، قاله أبو خالد الكناني.
{علِم أنْ سيكونُ منكم مّرْضى} ذكر الله أسباب التخفيف، فذكر منها المرض لأنه يُعجز.
ثم قال: {وآخرون يضْرِبون في الأرض} فيه وجهان:
أحدهما: أنهم المسافرون، كما قال عز وجل: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}.
الثاني: أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى: {يبتغون من فضلِ اللّه}، قاله ابن مسعود يرفعه، وهو قول السدي.
{وآخرون يُقاتِلون في سبيل اللّهِ} يعني في طاعته، وهم المجاهدون.
{فاقْرؤوا ما تيسّر منه} نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعا ونفلا، لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه.
وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض.
{وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة، وهي الخمس لوقتها.
{وآتُوا الزكاة} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها هاهنا طاعة اللّه والإخلاص له، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها صدقة الفطر، قاله الحارث العكلي.
الثالث: أنها زكاة الأموال كلها، قاله قتادة وعكرمة.
{وأقْرِضوا اللّه قرْضا حسنا} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أنه النوافل بعد الفروض، قاله ابن زيد.
الثاني: قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قاله ابن حبان.
الثالث: النفقة على الأهل، قاله زيد بن أسلم.
الرابع: النفقة من سبيل الله، وهذا قول عمر رضي الله عنه.
الخامس: أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب.
{تجدُوه عِند اللهِ} يعني تجدوا ثوابه عند الله {هو خيرا} يعني مما أعطيتم وفعلتم.
{وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة.
ويحتمل أن يكون {أعظم أجرا} الإعطاء بالحسنة عشرا.
{واسْتغْفِرُوا اللّه} يعني من ذنوبكم.
{إنّ اللّه غفورٌ} لما كان قبل التوبة.
{رحيمُ} بكم بعدها، قاله سعيد بن جبير. اهـ.